سلسلة شعب إيمانية | المقالة الثامنة عشرة | ثمار محبة الله تعالى | د. محمد فايز عوض
﷽
أيها الإخوة: إن العبد يتقلب في نعم مولاه، يتقلب في نعم عظيمة، وآلاء جسيمة، منذ كونه نطفة في رحم أمه وإلى أن يفارق الدنيا، فهو يتقلب كل يوم صباحا ومساء في نعم عظيمة يدرك بعضها ولا يدرك كثيرا منها.
ومن أعظم نعم المولى على العبد “محبة الله ﷻ“، هذه المحبة التي يقذفها الله ﷻ في قلوب من اختارهم واصطفاهم من عباده وأوليائه.
وكيف لا تكون محبة العبد لمولاه من أعظم النعم التي يسوقها مولاه له، ولها من الآثار العظيمة في الدنيا والآخرة ما لا يخطر على بال؟.
وجماعُ القولِ، وخلاصةُ الحديثِ، أنَّ الدنيا كلَّها إنما تطيب، والحياة إنما تهنأ، بمحبة الله ﷻ؛ فالحياة بدون محبة الله سراب، الحياة بدون محبة الله ضياع، الحياة بدون محبة الله غَمٌّ وهَمٌّ ونكَد، ولا يجد حقيقة ذلك إلا المحبون لربهم ﷻ يوم تطيب حياتهم، وتهنأ عيشتهم، على الرغم مما قد يصيبهم في دنياهم من آلام ومصائب تتبدد وتتلاشى بتلك النعمة العظيمة، نعمة المحبة، التي يدركونها، ويعيشون ويطمئنون بها.
من ثمار المحبة، محبة العبد لمولاه،
- ما يجده المحب في قلبه من شوق لقاء الله، الشوق إلى لقاء الخالق؛ لأن المحبة تحمل على الشوق ولقاء المحبوب؛ فإن القلب إذا أبغض شيئا وكرهه جد في الهرب منه، وإذا أحبه جد في الهرب إليه وطلبه.
لقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو سيد المحبين لربهم كان يسأل ربه ﷻ الشوق إلى لقائه، فعن عطاء بن السائب عن أبيه قال: صلى بنا عمار بن ياسر صلاة فأوجز فيها، فقال له بعض القوم: لقد خففت أو أوجزت الصلاة. فقال: أما على ذلك فقد دعوت فيها بدعوات سمعتهن من رسول الله ﷺ فلما قام اتبعه رجل من القوم، فسأله عن الدعاء، ثم رجع فأخبرهم به: “اللهم بعلمك الغيب، وقدرتك على الخلق، أحيني ما علمت الحياة خيرا لي، وتوفني إذا علمت الوفاة خيرا لي، وأسألك خشيتك في الغيب والشهادة، وأسألك كلمة الحق في الرضا والغضب، وأسألك القصد في الفقر والغنى، وأسألك نعيما لا ينفد، وأسألك قرة عين لا تنقطع، وأسألك الرضا بعد القضاء، وأسألك برد العيش بعد الموت، وأسألك لذة النظر إلى وجهك، والشوق إلى لقائك، في غير ضراء مُضِرّة، ولا فتنة مضلة، اللهم زَيِّنَّا بزينة الإيمان، واجعلنا هداة مهتدين”
إن العبد المحب المشتاق إلى لقاء ربه ﷻ، لا يهدأ قلبه، ولا يقر قراره إلا بالوصول إليه ﷻ، ومحك هذا الشوق إلى لقاء الله ﷻ، محكه مواطن أربعة يظهر فيها صدق الشوق إلى لقاء الله من عدمه، هذه المواطن الأربعة ذكرها ابن القيم رحمه الله في بعض كتبه.
*الموطن الأول: عند أخذ العبد مضجعه، وتفرُّغ حواسه وجوارحه من الشواغل، واجتماع قلبه على ما يحبه، فإن العبد المحب المشتاق إلى لقاء الله ﷻ لا ينام إلا على ذكر من يحبه، وشغل قلبه به.
ولهذا كان من دعاء النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا أوى إلى مضجعه: «اللهم أسلمت نفسي إليك، وفوضت أمري إليك، وألجأت ظهري إليك؛ رغبة ورهبة إليك، لا ملجأ ولا منجى منك، إلا إليك، آمنت بكتابك الذي أنزلت، وبنبيك الذي أرسلت».
وكان يحث أصحابة عند النوم على أن يسبح الواحد منهم ثلاثا وثلاثين، وأن يحمد الله ثلاثا وثلاثين، وأن يكبر الله أربعاً وثلاثين، فيكون مجموع ذلك مائة.
*الموطن الثاني الذي يظهر فيه صدق الشوق إلى لقاء الله ﷻ عند الانتباه من النوم، فأول شيء يسبق إلى قلب العبد المشتاق إلى لقاء الله ذكر محبوبه ﷻ، فيقول عند انتباهه من نومه: «الحمد لله الذي أحيانا بعدما أماتنا وإليه النشور».
*الموطن الثالث الذي يظهر فيه صدق الشوق إلى لقاء الله ﷻ: عند دخوله في الصلاة فرضها ونفلها، فإنها محك الأحوال جميعا، وميزان الإيمان، في الصلاة يوزن إيمان الرجل ويتحقق حاله ومقامه ومقدار قربه من الله، ونصيبه منه.
والصلاة محل المناجاة والقربة، لا واسطة فيها بين العبد وبين ربه ومولاه المشتاق إلى لقائه، لا شيء أقر لعين المحب المشتاق ولا ألذ لقلبه ولا أنعم لعيشه من الصلاة إذا كان صادقا في محبته وشوقه لربه ﷻ؛ لأنه لا شيء آثر عند المحب ولا أطيب له من خلوته بمحبوبه ومناجاته له، وكأن العبد المسلم المحب لربه المشتاق إلى لقائه كأن هذا العبد في هذه الدنيا في سجن وضيق وهمّ وغمّ حتى تحضر الصلاة فيجد قلبه قد انشرح واستراح.
ولهذا كان إمام العابدين وسيد المحبين والمشتاقين لربهم ﷺ، كان يقول لبلال: «يا بلال، أرحنا بالصلاة»، وكان يقول -صلى الله عليه وسلم-: «وجعلت قرة عيني في الصلاة».
وبالجملة -أيها الإخوة المسلمون-: لا يزن العبد إيمانه ومحبته لله بمثل ميزان الصلاة؛ فإنها الميزان العادل الذي وزنه غير مائل، والله المستعان.
تأمل أيها المسلم حالك مع هذه الصلاة المكتوبة والمسنونة، تأمل حالك، هل تجد شوقاً لها؟ هل تجد انشراحاً في صدرك وأنت تؤديها؟ هل تجد حرصاً على إقامتها؟ هل تتوجه مباشرة لإجابة الله ﷻ يوم يدعوك المؤذن: حي على الصلاة حي على الفلاح! وتترك كل ما في يدك من أشغال وأعمال استجابة لنداء موالاك؛ لعلمك أن الصلاة مستراح قلبك، وراحة فؤادك، وطمأنينة صدرك؟.
هل تجد هذا أيها المسلم أم تجد عكسه وخلافه؟ إن أردت أن تزن إيمانك وصدق محبتك وشوقك إلى لقاء مولاك فاسأل نفسك عن حالك مع هذه الصلاة.
كيف يحرمون أنفسهم من لذة المناجاة ولذة القرب والتضرع بين يدي الله ﷻ وهم يعيشون نعم الله عليهم من أمن في بيوتهم، وصحة في أبدانهم، وسعة رزق، والمساجد لا تبعد عنهم، بل تحيط ببيوتهم ومنازلهم من جميع الأماكن والجهات، ومع ذلك تشكو مساجد المسلمين من ضعف المسلمين في المحافظة على هذه الصلاة!.
*الموطن الرابع الذي به يظهر صدق العبد في محبته وشوقه لربه ﷻ عند الشدائد والأهوال، فإن قلب العبد المحب المشتاق لربه لا يذكر يوم تنزل الشدائد به والأهوال إلا أحب الأشياء إليه، ولا يهرب مما هو فيه من ضيق وشدة إلا إلى محبوبه ومولاه ﷻ فيجد في مناجاته وسؤاله رفع البلاء، يجد في ذلك الأنس والسرور والعافية.
جاء في الحديث الذي رواه الإمام أحمد والنسائي وغيرهما، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «أخذ النبي ﷺ بنتا له تقضي، فاحتضنها فوضعها بين ثدييه، فماتت وهي بين ثدييه، فصاحت أم أيمن، فقيل: أتبكي عند رسول الله ﷺ؟! قالت: ألست أراك تبكي يا رسول الله؟ قال: “لست أبكي، إنما هي رحمة، إن المؤمن بكل خير على كل حال، إنّ نفسه تخرج من بين جنبيه وهو يحمد الله ﷻ».
فكيف بما دون خروج الروح وحالة النزع والاحتضار؟ إن المسلم على كل مصيبة تصيبه وكل ألم ينزل به وكل مرض يمسه وكل شدة تحيط به يحمد ربه ﷻ، ويفزع إلى مولاه، إن من كان مشغولا بالله وذكره ومحبته في حال حياته وجد ذلك أحوج ما هو إليه عند خروج روحه إلى الله.
وأما العبد الذي يشق عليه ذكر مولاه ﷻ، وأعظم الساعات والدقائق وأشقها عليه تلك التي يذكر فيها ربه ﷻ، فقد يُخاف -عياذا بالله- عند خروج روحه ألّا يتيسر له ذكر مولاه في تلك الساعة الرهيبة.
إن من كان مشغولاً بالله وذكره ومحبته في حال حياته وجد ذلك أحوج ما هو إليه عند خروج روحه إلى الله، ويقدم على الله تعالى قدوم العبد المحسن المشتاق إلى مولاه الذي تحمل مشاق الأعمال طمعا في لقائه، فلا يخفى ما يلقاه المحب الصادق في محبته المشتاق إلى لقاء ربه من الفرح والسرور بمجرد القدوم، فضلا عما يستحقه من لطائف الإكرام وبدائع الإنعام.
ومن ثمار المحبة -أيها الإخوة في الله- التسلي عند المصائب، فإن المحب يجد في لذة المحبة ما ينسيه المصائب ولا يجد مِن مسها ما يجده غير المحب، فإذا سلم له محبوبه ﷻ لن يبالي بما فاته، فلا يجزع على ما ناله؛ لأنه يرى في محبوبه عوضا عن كل شيء، ولا يرى في شيء -مهما عظم- غير مولاه عوضا عن مولاه!.
فكل مصيبة عنده هينة إذا بقي له محبوبه ومولاه، ولهذا كان من دعاء النبي ﷺ لما آذاه أهل الطائف ورموه بالحجارة حتى سال الدم من عقبه الشريف، كان يقول ﷺ: «إن لم يكن بك غضب عليّ فلا أبالي، غير أن عافيتك أوسع لي».
و لو لم يكن -أيها الإخوة في الله- في المحبة من الفوائد إلا هذه الفائدة وحدها لكفى بها شرفا؛ لأن المصائب ملازمة للعبد في هذه الدنيا لا محيد له عنها، ولا يمكن دفعها بمثل محبة الله ﷻ والشوق إلى لقائه.
وهكذا مصائب الموت وما بعده، وهي من أعظم ما يصيب الإنسان، إنما تسهل وتهون بالمحبة، وكذلك مصائب القيامة.
وأعظم المصائب مصيبة النار، ولا يدفعها إلا محبة الله وحده، ومتابعة رسوله ﷺ
ولهذا جاء في الحديث: «عينان لا تمسهما النار: عين باتت تحرس في سبيل الله، وعين بكت من خشية الله».
ومن السبعة الذين يظلهم الله بظله يوم لا ظل إلا ظله: «رجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه”؛ فاضت عيناه لما تذكر محبوبه وخالقه -عز وجل-، فاضت عيناه خوفا وإجلالا، فاضت عيناه رهبة ومحبة، فاضت عيناه يوم يذكر مولاه طمعا وشوقا لمولاه ﷻ.
وعن أنس بن مالك: «أن رجلا من الأعراب أتى رسول الله ﷺ فقال يا رسول الله ! متى الساعة؟ فقال رسول الله ﷺ: ما أعددت لها؟ فقال الأعرابي: ما أعددت لها من كثير أحمد عليه نفسي إلا أني أحب الله و رسوله فقال رسول الله ﷺ: فإنك مع من أحببت» رواه مسلم
و روي عن يحيى بن معاذ الرازي رحمه الله: ينشد:
أن المليك قد اصطفى خداما | متــوددين مواطــئـين كراما | |
رزقوا المحبة و الخشوع لربهم | فترى دموعهم تسح سجاما | |
يحيــون ليلهم بطول صــلاتهم | لا يســـــأمون إذا الخلي ناما | |
قـــوم إذا رقــد العيــون رأيتهم | صفوا لشـــــدة خوفه أقداما | |
وخالهم موتى لطول سجودهم | يخشــــون من نار الإله غراما | |
شغفوا بحب الله طول حيــاتهم | فـتــجــــنــبــوا لــوداده آثامــا |
- عن أبي موسى قال: «قلت يا رسول الله الرجل يحب القوم و لما يلحق بهم فقال رسول الله ﷺ: المرء مع من أحب» رواه البخاري و مسلم.
- و عن أنس قال: «قال رجل يا رسول الله متى الساعة؟ قال: و ما أعددت لها؟ فلم يذكر كثيرا إلا أنه يحب الله و رسوله فقال: أنت مع من أحببت» أخرجه مسلم.
- فنسأل الله ﷻ أن يجعلنا من أهل محبته وولايته، وأن يؤهلنا لنيل شرف محبته، إنه هو البر الرحيم الحليم الكريم.