سلسلة شعب إيمانية | محبة الله تعالى معناها وأسبابها | المقالة السابعة عشرة | د. محمد فايز عوض

﷽

          الْحَمْدُ لِلَّهِ الْخَلَّاقِ الْعَلِيمِ، الرَّزَّاقِ الْكَرِيمِ؛ أَنَارَ الطَّرِيقَ لِلسَّالِكِينَ، وَأَفَاضَ مِنْ جُودِهِ عَلَى عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ، 

و الصلاة و السلام على من عَلَّمَ أُمَّتَهُ أَنَّ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ تُنَالُ بِمَحَبَّةِ اللَّهِ ﷻ، وَمَحَبَّةِ مَا يُحِبُّهُ ﷻ، وَبُغْضِ مَا يُبْغِضُهُ ﷻ، وَمُوَالَاةِ أَوْلِيَائِهِ، وَمُعَادَاةِ أَعْدَائِهِ، صَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ. 

          أَيُّهَا الإخوة الكرام :إن غَايَةُ كُلِّ مُؤْمِنٍ نَيْلُ مَحَبَّةِ اللَّهِ ﷻ، وَإِلَيْهَا يَسْعَى عُمْرَهُ كُلَّهُ، وَمَا تَعَبَّدَ الْمُتَعَبِّدُونَ إِلَّا لِلْوُصُولِ إِلَيْهَا، وَلَا تَرَكُوا الشَّهَوَاتِ الْمُحَرَّمَةَ إِلَّا لِتَحْصِيلِهَا، وَلَا بَذَلَ الشُّهَدَاءُ أَرْوَاحَهُمْ إِلَّا لِأَجْلِهَا. وَمَنْ أَحَبَّ اللَّهَ ﷻ أَحَبَّهُ اللَّهُ ﷻ، وَأَحَبَّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ، وَبُسِطَ لَهُ الْقَبُولُ فِي الْأَرْضِ، وَعَلَا شَأْنُهُ، وَرُفِعَ ذِكْرُهُ، وَحَازَ رِضْوَانَ اللَّهِ ﷻ وَجَنَّتَهُ؛ وَفِي ذَلِكَ طِيبُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَالْفَوْزُ الْأَكْبَرُ فِي الْآخِرَةِ.

• معنى المحبة:
            يصف ابن القيم رحمه الله المحبة في كتابه “مدارج السالكين” عند حديثه عن منزلة المحبة قائلًا:
  “المحبة هي المنزلة التي تنافَس فيها المتنافسون، وعليها تفانى المحبُّون، وبروح نَسيمِها تروَّح العابدون؛ فهي قوت القلوب، وغذاء الأرواح، وقُرَّة العيون، وهي الحياة التي مَن حُرِمها فهو في جملة الأموات، والفوز الذي مَن فقده فهو في بحار الظلمات، والشفاء الذي من عُدِمه حلَّت بقلبه جميعُ الأسقام، واللذَّة التي مَن لم يظفَر بها فعيشُه كله هموم وآلام…”؛

• حكم المحبة :
            قال الله ﷻ: ﴿قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّىٰ يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ ۗ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾. [التوبة:24]

          قال البيهقي رحمه الله : فأبان بهذا أن حب الله و حب رسوله و الجهاد في سبيله فرض و أنه لا ينبغي أن يكون شيء سواه أحب إليهم منه 

و بمثل ذلك جاءت السنة فعن أنس بن مالك: أن رسول الله ﷺ قال: «ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله و رسوله أحب إليه مما سواهما وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله و أن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يوقد له نار فيقذف فيها» رواه البخاري و مسلم.

فأبان المصطفى ﷺ بهذا أن حب الله ﷻ و حب رسوله ﷺ من الإيمان. 

          يقول سفيان بن عيينة: “والله لا تبلغوا ذروة هذا الأمر حتى لا يكون شيء أحب إليكم من الله عز و جل و من أحب القرآن فقد أحب الله عز وجل”

• معاني المحبة: 
            قال الحليمي رحمه الله: محبة الله ﷻ اسم لمعان كثيرة:
            أحدها: الاعتقاد أنه -عز اسمه- محمود من كل وجه لا شيء من صفاته إلا و هو مدحة له.
            الثاني: الاعتقاد أنه محسن إلى عباده، منعم متفضل عليهم.
            الثالث: اعتقاد أن الإحسانَ الواقع منه أكبرُ و أجلُ من أن يقضي قولُ العبد و عملُه -و إن حَسُنا و كَثُرا – شكرَه.
            الرابع: أن لا يستقل العبد قضاياه و يستكثر تكاليفه.
            الخامس: أن يكون في عامة الأوقات مشفقًا وجلًا من إعراضه عنه و سلبه معرفته التي أكرمه بها وتوحيده الذي حلاه و زينه به.
            السادس: أن تكون آماله معقودة به و لا يرى في حال من الأحوال أنه غني عنه.
            السابع: أن يحمله تمكن هذه المعاني في قلبه على أن يديم ذكره بأحسن ما يقدر عليه.
            الثامن: أن يحرص على أداء فرائضه و التقرب إليه من نوافل الخير بما يطيقه.
            التاسع: أنه إن سمع من غيره ثناءً عليه ، و عرف منه تقربًا إليه و جهادًا في سبيله سرًا أو إعلانًا مالأه و والاه.
            العاشر: أنه إن سمع من أحد ذكرًا بما يجل عنه أو عرف منه غيًا عن سبيله سرًا أو علانية باينه و ناواه الأسباب الجالبة لمحبة الله ﷻ.

          وَلِلْإِمَامِ ابْنِ الْقَيِّمِ كَلَامٌ جَيِّدٌ “فِي الْأَسْبَابِ الْجَالِبَةِ لِلْمَحَبَّةِ، وَالْمُوجِبَةِ لَهَا، وَهِيَ عَشَرَةٌ”. نَأْتِي بِهَا وَبِمَا يُوَضِّحُهَا؛ لِيَجْتَهِدَ الْمُؤْمِنُ فِي تَحْقِيقِهَا، وَيُرَبِّيَ أَهْلَهُ وَوَلَدَهُ عَلَيْهَا؛ لِيَسْعَدَ بِهِمْ وَيَسْعَدُوا بِهِ؛ فَإِنَّ مَنْ نَالَ مَحَبَّةَ اللَّهِ ﷻ كَانَتْ عِنَايَةُ اللَّهِ ﷻ تُحِيطُ بِهِ فَيُوَفَّقُ وَيُسَدَّدُ فِي أُمُورِهِ كُلِّهَا، وَهَذِهِ الْأَسْبَابُ الْعَشَرَةُ هِيَ كَمَا يَلِي:
– أَحَدُهَا: قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ بِالتَّدَبُّرِ وَالتَّفَهُّمِ لِمَعَانِيهِ، وَمَا أُرِيدَ بِهِ، كَتَدَبُّرِ الْكِتَابِ الَّذِي يَحْفَظُهُ الْعَبْدُ وَيَشْرَحُهُ؛ لِيَتَفَهَّمَ مُرَادَ صَاحِبِهِ مِنْهُ.
وَمَنْ تَدَبَّرَ الْقُرْآنَ صَلَحَ بِهِ قَلْبُهُ، وَاسْتَقَامَ عَلَى أَمْرِ اللَّهِ ﷻ:  قَالَ ﷻ: ﴿كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ [ص: 29]. وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ مَنْ تَدَبَّرَ الْقُرْآنَ اهْتَدَى بِهِ، وَمَنِ اهْتَدَى بِهِ وُفِّقَ لِكُلِّ شَيْءٍ قَوِيمٍ؛ كَمَا قَالَ ﷻ: ﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ﴾ [الْإِسْرَاءِ: 9]، وَقَالَ ﷻ: ﴿جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا﴾ [الشُّورَى: 52]. 

          – الثَّانِي: التَّقَرُّبُ إِلَى اللَّهِ بِالنَّوَافِلِ بَعْدَ الْفَرَائِضِ؛ فَإِنَّهَا تُوَصِّلُهُ إِلَى دَرَجَةِ الْمَحْبُوبِيَّةِ بَعْدَ الْمَحَبَّةِ“.
وَحُجَّةُ ذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ ﷻ فِي الْحَدِيثِ الْقُدْسِيِّ: «وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ» (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ).

          – الثَّالِثُ: دَوَامُ ذِكْرِهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ: بِاللِّسَانِ وَالْقَلْبِ، وَالْعَمَلِ وَالْحَالِ. فَنَصِيبُهُ مِنَ الْمَحَبَّةِ عَلَى قَدْرِ نَصِيبِهِ مِنْ هَذَا الذِّكْرِ.
وذَلِكَ أَنَّ مَنْ أَحَبَّ أَحَدًا أَكْثَرَ مِنْ ذِكْرِهِ، فَكَيْفَ بِمَنْ أَحَبَّ خَالِقَهُ ﷻ، وَاللَّهُ ﷻ يَقُولُ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا ۞ وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا﴾ [الْأَحْزَابِ: 41- 42]، وَقَالَ ﷻ: ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ﴾ [الْبَقَرَةِ: 152]،
وَقَالَ ﷻ فِي الْحَدِيثِ الْقُدْسِيِّ: «أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، وَأَنَا مَعَهُ إِذَا ذَكَرَنِي، فَإِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي، وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلَإٍ ذَكَرْتُهُ فِي مَلَإٍ خَيْرٍ مِنْهُمْ…» (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ).

          – الرَّابِعُ: إِيثَارُ مَحَابِّهِ عَلَى مَحَابِّكَ عِنْدَ غَلَبَاتِ الْهَوَى، وَالتَّسَنُّمُ إِلَى مَحَابِّهِ، وَإِنْ صَعُبَ الْمُرْتَقَى“.
وَذَلِكَ أَنَّ مَنْ آثَرَ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ ﷻ عَلَى مَا تَهْوَى نَفْسُهُ فَقَدْ قَدَّمَ مَحَبَّتَهُ لِلَّهِ ﷻ عَلَى مُتَعِ الدُّنْيَا الزَّائِلَةِ، فَسَارَ عَلَى الْهُدَى، وَجَانَبَ الضَّلَالَ، وَاللَّهُ ﷻ يَقُولُ: ﴿وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ﴾ [الْقَصَصِ: 50]، وَقَالَ ﷻ: ﴿وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾ [ص: 26]، وَجَزَاؤُهُ الْجَنَّةُ؛ كَمَا فِي قَوْلِهِ ﷻ: ﴿وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى ۞ فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى﴾ [النَّازِعَاتِ: 40- 41]. 

          – الْخَامِسُ: مُطَالَعَةُ الْقَلْبِ لِأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ، وَمُشَاهَدَتُهَا وَمَعْرِفَتُهَا. وَتَقَلُّبُهُ فِي رِيَاضِ هَذِهِ الْمَعْرِفَةِ وَمَبَادِيهَا. فَمَنْ عَرَفَ اللَّهَ بِأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ: أَحَبَّهُ لَا مَحَالَةَ…”.
فَلَا يَمْلِكُ مَنْ عَرَفَ اللَّهَ ﷻ بِأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ إِلَّا أَنْ يُحِبَّهُ، وَيَسْأَلَهُ بِهَا؛ لِأَنَّ أَسْمَاءَهُ حُسْنَى، وَصِفَاتِهِ عُلْيَا؛ ﴿وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا﴾ [الْأَعْرَافِ: 180]، وَقَالَ ﷻ: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ [الشُّورَى: 11]، وَقَالَ ﷻ: ﴿هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ ۞ هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى﴾ [الْحَشْرِ: 22- 24]. 

          – السَّادِسُ: مُشَاهَدَةُ بِرِّهِ وَإِحْسَانِهِ وَآلَائِهِ، وَنِعَمِهِ الْبَاطِنَةِ وَالظَّاهِرَةِ؛ فَإِنَّهَا دَاعِيَةٌ إِلَى مَحَبَّتِهِ”.
وَذَلِكَ أَنَّ الْعَبْدَ يَتَقَلَّبُ فِي نِعَمِ اللَّهِ ﷻ مُنْذُ خُلِقَ، قَالَ اللَّهُ ﷻ: ﴿وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا﴾ [إِبْرَاهِيمَ: 34]، وَقَالَ ﷻ: ﴿وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ﴾ [النَّحْلِ: 53]، وَالْبَشَرُ مَجْبُولُونَ عَلَى حُبِّ مَنْ يُحْسِنُ إِلَيْهِمْ، فَكَيْفَ بِإِحْسَانِ اللَّهِ ﷻ عَلَى الْعَبْدِ، وَهُوَ مُتَتَابِعٌ لَا يَنْقَطِعُ، وَمِنْ كَثْرَتِهِ لَا يُحْصَى، وَاللَّهُ ﷻ يُحِبُّ مِنْ عَبْدِهِ أَنْ يَشْكُرَهُ، وَأَنْ يُحَدِّثَ بِنِعَمِهِ، قَالَ ﷻ: ﴿وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ﴾ [الزُّمَرِ: 7]، وَقَالَ ﷻ: ﴿بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ﴾ [الزُّمَرِ: 66] وَقَالَ ﷻ: ﴿وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ﴾ [الضُّحَى: 11]. 

          – السَّابِعُ: وَهُوَ مِنْ أَعْجَبِهَا، انْكِسَارُ الْقَلْبِ بِكُلِّيَّتِهِ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ ﷻ، وَلَيْسَ فِي التَّعْبِيرِ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى غَيْرُ الْأَسْمَاءِ وَالْعِبَارَاتِ“.
فَانْكِسَارُ الْقَلْبِ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ ﷻ يَدُلُّ عَلَى اسْتِشْعَارِ الْعَبْدِ لِفَاقَتِهِ وَفَقْرِهِ وَحَاجَتِهِ إِلَى اللَّهِﷻ: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ۞ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ ۞ وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ﴾ [فَاطِرٍ: 15- 17]. فَالْعَبْدُ مُحْتَاجٌ إِلَى رَبِّهِ ﷻ فِي كُلِّ أَحْوَالِهِ، وَفِي كُلِّ أَزْمَانِهِ، وَلَا غِنَى لَهُ عَنِ اللَّهِ ﷻ بِحَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ، وَيَسْتَغْنِي بِاللَّهِ ﷻ عَنِ الْخَلْقِ كُلِّهِمْ، وَلَا يَسْتَغْنِي بِهِمْ جَمِيعًا عَنِ اللَّهِ ﷻ. وَكُلَّمَا كَانَ الْقَلْبُ أَكْثَرَ انْكِسَارًا لِلَّهِ ﷻ وَفَقْرًا وَفَاقَةً؛ كَانَ صَاحِبُهُ أَحَبَّ إِلَى اللَّهِ ﷻ، وَأَقْرَبَ إِلَيْهِ؛ وَلِذَا كَانَ أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ ﷻ وَهُوَ سَاجِدٌ؛ لِأَنَّهُ أَشَدُّ ذُلًّا وَانْكِسَارًا لَهُ. وَفِي الدُّعَاءِ الْمَأْثُورِ “اللَّهُمَّ أَسْلَمْتُ نَفْسِي إِلَيْكَ، وَوَجَّهْتُ وَجْهِي إِلَيْكَ، وَأَلْجَأْتُ ظَهْرِي إِلَيْكَ، وَفَوَّضْتُ أَمْرِي إِلَيْكَ، رَغْبَةً وَرَهْبَةً إِلَيْكَ، لَا مَلْجَأَ وَلَا مَنْجَا مِنْكَ إِلَّا إِلَيْكَ” فَلَا مَفَرَّ مِنَ اللَّهِ ﷻ إِلَّا إِلَيْهِ، وَلَا مَعَاذَ مِنْهُ إِلَّا بِهِ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ لِلْعَبْدِ إِلَّا بِهِ، وَاسْتِشْعَارُ هَذَا الْفَقْرِ مِنْ أَقْوَى أَسْبَابِ مَحَبَّةِ اللَّهِ ﷻ لِلْعَبْدِ. 

“اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ حُبَّكَ وَحُبَّ مَنْ يُحِبُّكَ، وَحُبَّ كُلِّ عَمَلٍ يُقَرِّبُنَا إِلَى حُبِّكَ، اللَّهُمَّ اجْعَلْ حُبَّكَ أَحَبَّ إِلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ الْبَارِدِ عَلَى الظَّمَأِ”. 

          – الثَامِنُ: “الْخَلْوَةُ بِهِ وَقْتَ النُّزُولِ الْإِلَهِيِّ؛ لِمُنَاجَاتِهِ وَتِلَاوَةِ كَلَامِهِ، وَالْوُقُوفِ بِالْقَلْبِ وَالتَّأَدُّبِ بِأَدَبِ الْعُبُودِيَّةِ بَيْنَ يَدَيْهِ. ثُمَّ خَتْمُ ذَلِكَ بِالِاسْتِغْفَارِ وَالتَّوْبَةِ“.
كَمَا قَالَ ﷻ: ﴿تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا﴾ [السَّجْدَةِ: 16]، وَقَالَ ﷻ: ﴿كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ ۞ وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ﴾ [الذَّارِيَاتِ: 17- 18]. 

          – التَّاسِعُ: مُجَالَسَةُ الْمُحِبِّينَ الصَّادِقِينَ، وَالْتِقَاطُ أَطَايِبِ ثَمَرَاتِ كَلَامِهِمْ كَمَا يُنْتَقَى أَطَايِبُ الثَّمَرِ. وَلَا تَتَكَلَّمْ إِلَّا إِذَا تَرَجَّحَتْ مَصْلَحَةُ الْكَلَامِ، وَعَلِمْتَ أَنَّ فِيهِ مَزِيدًا لِحَالِكَ، وَمَنْفَعَةً لِغَيْرِكَ“.
قَالَ اللَّهُ ﷻ: ﴿وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا﴾ [الْكَهْفِ: 28]، وَقَالَ أَبُو الْدَرْدَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: “لَوْلَا ثَلَاثٌ مَا أَحْبَبْتُ أَنْ أَعِيشَ يَوْمًا وَاحِدًا: الظَّمَأُ لِلَّهِ بِالْهَوَاجِرِ، وَالسُّجُودُ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ، وَمُجَالَسَةُ أَقْوَامٍ يَنْتَقُونَ مِنْ خِيَارِ الْكَلَامِ كَمَا يُنْتَقَى أَطَايِبُ الثَّمَرِ”. 

          – الْعَاشِرُ: مُبَاعَدَةُ كُلِّ سَبَبٍ يَحُولُ بَيْنَ الْقَلْبِ وَبَيْنَ اللَّهِ ﷻ“:
كَالْمَعَاصِي وَالْمُحَرَّمَاتِ، وَفُضُولِ الْكَلَامِ وَالنَّظَرِ وَالطَّعَامِ، وَالِانْغِمَاسِ فِي مَلَذَّاتِ الدُّنْيَا وَمُتَعِهَا؛ فَإِنَّهَا تُصِيبُ الْقُلُوبَ بِالْقَسْوَةِ، وَتُبْعِدُهَا عَنِ اللَّهِ ﷻ.

          فَحَريٌّ بِالْمُؤْمِنِ أَنْ يَتَعَلَّمَهَا وَيَعْمَلَ بِهَا، وَيُعَلِّمَهَا أَهْلَهُ وَوَلَدَهُ وَأَحْبَابَهُ؛ لِيُقَرِّبَهُمْ إِلَى اللَّهِ ﷻ، وَيَدُلَّهُمْ عَلَى طَرِيقِ مَحَبَّتِهِ وَوِلَايَتِهِ سُبْحَانَهُ، فَيَسْعَدُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.