سلسلة علمني المصحف | ما فرَّطنا في الكتابِ مِن شيء | المقالة الثانية عشرة والأخيرة | الشيخ أنس الموسى
﷽
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
اللهم إنا نستهديك لأرشد أمرنا وزدنا علما ينفعنا، وبعد:
فهذا هو اللقاء الأخير في سلسلة علمني المصحف، هذا الكتاب الذي جمع فيه ربُّنا سبحانه ما أنزله في جميع الكتب السابقة على أنبيائه ورسله ﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ﴾ [المائدة 48] ونحن إذ نتلقى أوامره وهداياته فإنه يقع في قلوبنا موقع المِقصِّ الذي يقصُّ ويهذب ويشذب.
واليوم بمشيئة الله تعالى نختم هذه السلسلة بجملةٍ من الدروس التي علمنا إياها المصحف فنقول وبالله التوفيق:
♦ علمني المصحف أن العالمية شائعةٌ في آياته، وأنَّ فوارق الزمان والمكان تُمحى وتزول في جو القرآن ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا﴾ [الأعراف 158]
♦ علمني المصحف أن الإنسانية الحائرةَ المعذَّبةُ اليوم ترنو إلى أحكام القرآن ودروسه ونصائحه آملة في إنقاذها من جديد.
♦ علمني المصحف أن الإسلام ليس شكلَ دولة وبرنامجَ حكم وحسب؛ بل دينٌ متعدد التعاليم متَّسع الميادين شمِل كل فروع الحياة وشؤونها؛ فأعلى شعب الإيمان لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق والحياء شعبة من شعب الإيمان.
♦ علمني المصحف أنَّ الدين إذا كان في نظر البعض أفيوناً للشعوب فإن الدين في نظر المسلم منبِّهٌ للشعوب يحثُّها على دفع الظلم وإقامة العدل، وأن الناس سواسيةٌ كأسنان المِشط وأحبهم إلى الله الطائع المستكين وأكرمهم الأتقى ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾ [الحجرات 13]
♦ لقد علمنا المصحف أن ننسى قصة الألوان والأعراق فقد أَلِفَ المسلمون أن يؤمَّهم في المحراب أو يؤذِّن فيهم للصلاة أو يقضي بينهم أو يفتيهم في أمور دينهم رجل أسود
♦ علمني المصحف أن معالم الحلال والحرام التي وضحها المصحف تحدد منازل الناس وقيمتهم، فمن انتهى إلى قيمةٍ من هذه القيم حلَّ المنزلة المناسبة لها بقدر ما يطبقه منها وإلاَّ فهو بعيد عن دين الله ولو كان اسمه أمير المؤمنين.
♦ علمني المصحف بأن من الصدود عنه توجيه الأذكياءِ والمتفوقين إلى خدمة الفنون المدنية ورفد ما عداهم لخدمة الدين؛ فتسجيل الطلاب اللامعين والمتميزين في الكليات العلمية المرموقة وتخصيص التعليم المدني بالكفايات ورمي التعليم الديني بالنفايات وهو صد عن دين الله وكتابه، وأن تحويلَهُ إلى حرفة الفقراء ومن لا خَلاق له، أو تحويله لحرفة يَزْوَرُّ عنها الكبراء وأصحاب الصدارة من إلحاق أبنائهم بها؛ فازدري أهله النابغون وأخِّروا في وقت استحقوا فيه الإعظام، منحوهم رواتب تدفعهم للتسول، وانقسم التعليم إلى ديني ومدني ونال التعليم المدني الغُنم كلَّه وغرِمَ الديني الغرم كله وهذا منذر بالويل لهذا الدين ومستقبله.
♦ علمني المصحف: أن أحكامَه دعوةٌ عامة تُجابه دعواتٍ مضادة وخصوماً للحق والحقيقة ولن يقف في وجههم إلاَّ دعاةٌ جمعوا بين عمق العلم والفهم، ودعاةٌ يحملون رصيداً كافياً من العلم بالدين والدنيا يصلح لمجابهة الحاقدين واستلانة المعاندين؛ فالمصحف يدعو لتكوين رجال يعملون للإسلام في كل ميدان تصطبغ ضمائرهم بصبغة الأمانة والإخلاص يحملون في قلوبهم حرقةً لخدمة هذا الدين والذود عنه فقضيةٌ لا تأكل كبد صاحبها تولد ميتة.
والمصحف يدعوا لتكوين رجال من أولي النباهة والذكاء والمعادن الفكرية الصافية يحملون سيرة نقية كسيرة الدعاة الأوائل من فقهاء ومحدثين كالذين كان الملوك يتلمسون رضاهم ويرون أن تمكين دولتهم وتوطيدَ أركانها لا يتم إلا بتنفيذ ما يريدونه؛ دعاةٌ يرون الله الغاية من علمهم هابوا الله فهابهم كل شيء.
♦ علمني المصحف: أن المعركة التي يخوضها المنافحون عن الإسلام وكتابه تثبت أن الحق لن يبيد وأن الهزائم العارضة ما هي إلا دورة من دورات الحياة ضمن قانون المداولة في الأرض والتي يعقبُها النصر الذي لا بد منه؛ لكن يوم يتسلح المسلمون بالإيمان الحق والخلق والتقوى ﴿وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ﴾ [آل عمران 140]
♦ علمني المصحف أن استدبار الحياة الدنيا والإقبالَ على الآخرة فقط ضَربٌ من الجهل بل وطعنة نافذة في صدر الإسلام وغيمٌ كثيف يغطي مستقبله ويهدد بقائه وأن الإسلام لن يستعيد أمجاده إلا إذا حمل أبنائه المصحف وأحكامَه في يد والفقه بعلوم الأرض في اليد الأخرى، وإلاَّ إذا جُوَّدت شؤون العُمران كما يُجوَّدِ القرآن والتفسير والحديث فالمسلمون لم تهبط منزلتهم إلا وقت استسلموا للخمول والأوهام ﴿وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ﴾ [التوبة 105]
♦ علمني المصحف أن الذودَ عن عِرض النبي وردَّ كيد المخاصمين له لن يكون على يد المضيِّعين لسنته ورسالته، وأن من التناقض الشائن أن نثور لأن هناك من رسمَ صورةً مسيئةً للمصطفى ﷺ؛ فسيِّرت المظاهرات وأقيمت الاحتجاجات وبالمقابل نسكت حين يُقتل المسلمون كالحشرات التافهة لا لشيء إلا لأنهم قالوا للظالم لا، ونسكت حين تمنع الفتاة من دخول الجامعة لا لشيء إلا لأنها تضع الحجاب، ونسكت حين يُهجَّرُ المسلمون من أرضهم ويقتلعون من أوطانهم ويشردون في أصقاع الأرض لا لشيء إلا لأنهم أرادوا أن يكونوا بشراً ويعاملوا كبشر.
حقاً إن العقل الإسلامي يحتاج أن يثوب إلى رشاده من جديد ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾ [محمد 24]
♦ علمني المصحف أن من أعظم حقوق القرآن على الأمة أن تقرأ القرآن بتدبر ﴿كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ [ص 29]
♦ علمني المصحف أن خطابه ليس خطاباً تاريخياً نزل استجابة لظرف تاريخي معين في حياة البشرية ينتهي دوره حين تتغير ظروف ذلك الخطاب؛ بل هو خطاب دائم للأمة المسلمة بل للبشرية جمعاء من مبعث المصطفى ﷺ إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها وأن مفاتيح قضايا الأمة الرئيسة هي في هذا المصحف وأن علينا تدبره بعيون مستبصرة وقلوب منفتحة لنهتدي لهذه المفاتيح.
♦ علمني المصحف أن الأمة التي شرفها الله بهذا الكتاب العزيز يوم أغمضت أعينها عنه وتقاعست عن أداء تكاليفه فقدت كثيراً من خيريتها؛ فتكالب أعداؤها عليها ولا عودة لتستلم الدفة من جديد وتتسنم مكانها الذي أخرجها الله من أجله إلا بالعودة إلا تدبر سبب عزتها ببصائر واعية وقلوب منفتحة مع تطبيقه واقعاً ليكونوا كما قال الله ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾ [البقرة 134]
♦ علمني المصحف أن كل شيء في حياة البشر، بل كلُّ ما في الكون يتم يقدر الله وأن قدَر الله يجري من خلال سننه، وقد بيَّن الله تعالى هذه السنن في كتابه المنزل لنعلم أن لا شيء يحدث جزافاً وهذه السنن لا تتبدل ولا تحابي ولا تجامل، وليس في مقدورنا تغيير مجراها لتجاملنا على حساب الحق ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ [الأنفال 52]
فلو أن الأمة الإسلامية ظلت مستقيمةً على الطريق لظل الوعد الرباني بالاستخلاف والتمكين متحققاً لها فالقضية أولاً وآخراً هي قضية العباد مع ربهم لأنَّ الذي يقدِّر المقادير هو الله وليس أعداؤنا فحين نَكَلَت الأمة عن واجباتها نزل بها ما نزل، وحين انشغلت عن رسالتها انجرفت في تيار الزوال ولم يحدث هذا مخالفاً لسنن الله في خلقه أو مخالفاً لوعده ووعيده ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ﴾ [آل عمران 110]
وهذه الاندلس أكبر شاهد على هذا؛ فيوم اشتغل مسلمو الأندلس بالترف – والترف مهلكة – بدأ الترهل يغزو كاهل حضارة دامت ثمانية قرون؛ فجرت مقادير الله وسننه من خلال أعمال البشر؛ عقاباً للمسلمين مع مخالفة هذه السنن؛ فاستولى أعداؤنا على الأندلس – الفردوس المفقود – وطردوا المسلمين منها شر طِردة عقابا من الله على مخالفة أمره فسنن الله لا تحابي ولا تجامِل.
إن عودة عزِّ الأمة المسلوب قدَرٌ غالب؛ لكن يوم يعودُ المسلمون للسير وفق سنن الله تعالى.
ولو كانت سنن الله تحابي أو تجامل لكن أولى الناس بهذه المجاملة إبراهيم عليه السلام يوم ابتلاه الله بكلمات واجتاز الابتلاء بنجاح يوم أُمِرَ بذبح ولده إسماعيل فكافأه الله على هذا النجاح فقال له ﴿وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾ [البقرة 124] فلما رغب إبراهيم عليه السلام أن يكون هذا العهد في ذريته قال: ﴿وَمِنْ ذُرِّيَّتِي﴾ فلم تجامله السنن الربانية فقال الباري له: ﴿قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾.
لا بد لأمة كي تنتصر أن تلتزم شروط النصر وإذا تقرر النصر من عند الله انتهت القضية ولن يعود هناك غالب يستطيع غَلبة المؤمنين ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ [النور 55] فلا يجوز أن نلوم القدر لأذىً أصابنا نحن سببُه الأول والأخير، وهذه الهزائم التي يتقلَّب العالم الإسلامي بها اليوم هي بسبب التفريط والتواني في موطن الجِدِّ والتعب وتجاهلِ سنن الله تعالى في خلقه، وسيظل المسلمون في ورطة حتى يَصْدقُوا مع الله ويمشوا وفق سننه وحيندئذ يفرح المسلمون بنصر الله.
♦ علمني المصحف أن اشتغال مُصْلح من المصلحين بلون من العلاج لا يعني أن الإسلام هو هذا اللونَ وحده؛ فلا يجوز أن نحتكر الحق مع هذا الداعية أو هذا المصلح وحده لأنه أنصف الدين في جانب من الجوانب كجانب العقيدة مثلاً؛ لأن العقيدة وحدها لا تستوعب تعاليم الإسلام كله – على أهميتها ومكانتها – لأن هناك مصلحين أنصفوا الإسلام في جوانب أخرى نالها الغمط وغطاها الجهل فكلهم من رسول الله ملتمس.
♦ علمني المصحف أن المسلم الحق لا يخاف الحرية أبداً بل ويحب السلام ويدعو إليه، ولا يرفض ولا يَرْهَبُ من تبادل الأفكار والآراء مع غير المسلمين؛ لكن عندما نرى ديننا يُهان، ودعاته يستباحون ويضطهدون، وتنتهب أرضهم، وتُسْتَذَّلُّ أمتهم؛ فمن العبث أن ينتظر أعداؤنا منَّا سلامًا؛ لأن السلام هنا معناه الموت، والذي يطالبنا بحمل أغصان الزيتون في مثل هذه الحال إمَّا مغفلٌ أو أحمقٌ أو حاقد.
♦ علمني المصحف أن من الظلم الذي لحق به حصر الاهتمام به في مجال جمال الورق وحُسن الطبع وأداؤُه بجميل الأصوات، وترك ما تضمنه من وحي ينشيء الأمم ويمسك الحضارات من الزوال، وأن هذا عجزٌ وبلاهة بل ومعصية، وإن كتابًا يُنظرُ إليه هكذا كتابٌ لا تعلو شارته ولا تنجح رسالته، وأن وظيفة العاملين في خدمة هذا الكتاب العزيز هي العودة إلى تحكيمه بين المسلمين وفي دنيا الناس؛ ليؤدي رسالته من جديد في علاج أدواء الأمم المريضة والأخذ بيدها نحو العافية.
♦ علمني المصحف أن ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ [الفاتحة 5] هي جوهرُ مشروع الإصلاح، وهي قاعدة النهضة ومعيارُ العلم وخِطةُ التنمية، وأن الأمة تاهت يوم أغفلت أو غفلت عن هاتين الكلمتين.
♦ وأخيراً: إن دروس المصحف لا تنتهي ولا تزول وأن لها أن تنتهي وهي تتعلق بكتاب لا تنقضي عجائبه ولا يخلق من كثرة الرد؟! ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ [الحجر 9].
اللهم انفعنا بالقرآن العظيم واجعله لنا إمامًا ورحمة.
اللهم وفقنا لمحابك وألهمنا مراشد الصواب والهداية.
وصلى الله على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.