إشراقات إيمانية في شهر الصيام | المقالة السادسة والعشرون | الشيخ عبد الرحمن الخرسة
﷽
إذا طبخت مرقة فأكثر ماءها
قال عليه ﷺ موصياً أبا ذر: «يا أبا ذر ! إذا طبخت مرقة فأكثِر ماءها وتعاهد جيرانك» رواه مسلم، وهذه الوصية من النبي ﷺ لأبي ذر رضي الله تعالى عنه في مسألة طبخ المرقة -أي: طبخ اللحم- والمرق قد يحوي لحماً وقد يحوي أشياء أخرى، فالنبي ﷺ أوصى أبا ذر رضي الله تعالى عنه أن يكثر المرق إذا طبخ شيئاً بإدام، أو بمرقة أن يكثر منها ويرسل إلى جاره.
وقوله: «فأكثر ماءها»، ليكثر الإدام، وهو ما يؤتدم به حتى يلين الخبز ويسيغه.
«وتعاهد جيرانك»، وهذا أمر من النبي ﷺ وأكد عليه، أي: بالإحسان إليهم، وفعل البر معهم، بإشراكهم في الطعام الذي طبخته، وقد جاء عند ابن أبي شيبة هذا الحديث بلفظ: «إذا طبختم لحماً؛ فأكثروا المرق؛ فإنه أوسع وأبلغ للجيران» فهذا حث على مكارم الأخلاق، وإرشاد إلى محاسنها، وقد يتأذى الجار بقتار قدر جار، وقتار القدر: ريح الطبخ، فقد يتأذى الجيران منه، فلا أقل من أن يعطوا مما شموا رائحته أو تأذوا منه، أو وصل إليهم دخانه مثلاً، وقد تتهيج عند صغارهم الشهوة إلى الطعام مما شموا من الجار، وتشتد الحسرة والألم عند الفقير الذي لا يجد مثلما عند جاره عندما يشتم رائحة طعامه، وربما يكون المجاور يتيماً أو أرملة، فتكون المشقة أعظم وتشتد الحسرة عند الصغير.
ولذلك جعل تشريكه في شيء من الطبخ نوعاً من المواساة لما اشتموا من هذه الرائحة، فلا أقبح من منع الشيء اليسير للمحتاج، أما إذا كان إرسال مرقة دون شيء يفهمه الجار على أنه استهانة به مثلاً، فلا يفعل الإنسان ما يؤدي إلى استياء جاره منه، أو شعوره بعدم التقدير له.
قال أبو ذر: «إن خليلي ﷺ أوصاني وقال: إذا طبخت مرقة؛ فأكثر ماءها ثم انظر أهل بيت من جيرانك؛ فأصبهم منها بمعروف» طبعاً «منها» يعود على المرق، و«بمعروف» هذه اللفظة: إيماء إلى أن المرسَل إلى الجيران ينبغي أن يكون شيئاً نافعاً، ولو كان قليلاً، والنبي ﷺ قال: «لا تحقرن من المعروف شيئاً» و «لا تحقرن جارة لجارتها ولو فرسن شاة» متفق عليه.
والنبي ﷺ قد قال أيضاً: «والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، قيل: من يا رسول الله؟! قال: الذي لا يأمن جاره بوائقه» «لا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه» هذه رواية مسلم ، والبوائق هي الغوائل والشرور، ومعنى «لا يدخل الجنة» أي: لا يدخل الجنة ناجياً، إلا يصيبه شيء من العذاب، أو لا يكون أول الداخلين، فهذا المسيء إلى جاره لا تتوقع أن يكون أول الداخلين، أو من أوائل الداخلين، أو أنه يدخل دون حساب ولا عذاب، فلابد أن يصيبه شيء من جراء ما آذى جيرانه.
ونظراً لأن النساء كثيرات المكث في المنزل أكثر من الرجال، واحتكاك الجارة بجارتها أكثر من احتكاك الجار بجاره، حيث أن الرجال خروجهم من البيت أكثر من النساء، كان لابد من وصية خاصة إلى الجارات لبعضهن البعض، وهذا حديث النبي ﷺ: «لا تحقرن جارة لجارتها ولو فرسن شاة» متفق عليه.
لما قال: «يا نساء المسلمات!» أي: يا نساء الجماعة المسلمات «لا تحقرن جارة لجارتها شيئاً من المعروف ولو فرسن شاة» وهو الشيء اليسير جداً.
وقال ﷺ: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره» والإيذاء أنواعه كثيرة، وإيذاء الجار حرام، وسنأتي على بعض أنواع الإيذاء، وقال ﷺ أيضاً: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليحسن إلى جاره» فذكر الإحسان وعدم الإيذاء حتى تكتمل القضية من طرفين: إحسان وعدم إيذاء؛ لأن عدم الإيذاء لا يتضمن الإحسان، أي: أنت ممكن لا تؤذي لكن لا تحسن، فليس المطلوب فقط أنك لا تؤذي، ولكن أن تحسن أيضاً.
أما الإحسان فهو ينافي الإيذاء، أي: إذا قال أحسن، فواضح أنه لا تؤذي، لكن عندما قال: لا تؤذي، فقد أكد على هذا الجانب؛ لأنه يحصل أذية من الجيران لبعضهم، ولذلك أكد عليه من جهتين: الإحسان وعدم الإيذاء، لكن عدم الإيذاء لا يعني وجوب الإحسان.
والرسول ﷺ لما سألته عائشة رضي الله عنها وقالت له: «يا رسول الله! إن لي جارين فإلى أيهما أهدي؟ قال: إلى أقربهما منك باباً» رواه البخاري.
فالرسول ﷺ لما أمر بإكرام الجار عملت عائشة رضي الله عنها، وقد كان الزاد عندهم قليلاً، ولم يكونوا على سعة من العيش، وكانت تمر أيام كثيرة لا يوقد في بيت النبي ﷺ نار ولا هناك شيء يطبخ، وأرسل مرة في طلب طعام لضيفه فلم يجد إلا الماء، وأحياناً يأتي لبن من هنا أو شيء من هنا، مما يهدى إلى النبي ﷺ، فهم كانوا من جهة العيش ليسوا في سعة، فلما كان هذا، وربما يحضر عند عائشة القليل، والجيران كثر، قلنا: أربعون من كل جانب، فما الذي يسع هؤلاء الجيران الكثر؟ فلذلك سألته قالت: «إن لي جارين فإلى أيهما أهدي؟ قال: إلى أقربهما منك باباً» وهذا أحد الأقوال في تفسير «والجار الجنب والجار ذي القربى» على أحد الأقوال، ولكن القول الأشهر: القربى صاحب القرابة النسبية.
وقال ﷺ: «خير الجيران عند الله خيرهم لجاره» رواه الترمذي وهو حديث حسن.
و «خيرهم لجاره» أي: في النفع والدفع، فهو ينفعه ويدفع عنه ما يؤذيه، فهذا خير الناس وأكثرهم ثواباً، وأكرمهم منزلة عند الله سبحانه وتعالى