سلسلة علمني المصحف | لا يَتوسَّدُ القرآن | المقالة السابعة | الشيخ أنس الموسى
﷽
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
اللهم إنا نستهديك لأرشد أمورنا وزدنا علمًا ينفعنا.
وبعد:
ذُكر الصحابي شريح الحضرمي أمام النبي ﷺ فأثنى عليه بطريقة غريبة فقال فيه: «ذاك رجلٌ لا يتوسد القرآن» مدح غريب.. فهل هناك رجل يرضى أن يجعل من المصحف وسادةً يتوسدها؟!
إن مدح النبي ﷺ لشريح الحضرمي له وجهان:
- فإمَّا أنَّ النبي ﷺ يمدح من لا ينام بالليل ويترك حزبه من القرآن فصار كمن لا يتخذ القرآن وسادة، ويشبهه قول أبي الدرداء: «لَأَن تتوسَّد العلم خيرٌ من أن تتوسَّد الجهل».
- أو أنَّ النبي ﷺ يذم من ينام ويترك حزبه من القرآن فكأنه اتخذ من القرآن وسادةً نام عليها وغفِل عن المصحف الذي يرسل رسائله بشكلٍ متكررٍ ولا يَردُّ عليها.
الحاصل أن المصطفى يريد أن ينبِّهنا بطريقةٍ بلاغية مثيرة على مكانة القرآن وأنه ما ينبغي أن نهمله أو نتشاغل عنه سواءٌ بالتلاوة بالليل والنهار أو بترك مراجعته بشكل مستمر أو نهملَ النظر إليه لنأخذ ما فيه من دروس وعبر نجد فيها حلولاً لمشكلاتنا وهمومنا على تنوع أشكالها.
أيها الإخوة: إن القرآن نورٌ وأيُّ نور؟ نورٌ يكتسح الظلمة ويبدِّدُ الوهم ولكن هذا المصحف – ويا للأسف – توسَّدَهُ أبناؤه فأصابه غَبنٌ فاحش عطَّل بعض وظائفه وشاب حقائقه وعرَّضه ليكون موضع التهم والظنون وصارت توجَّهُ إليه السهام من كل حدَبٍ وصوب؛ لأن أبناءه توسدوه.
خبروني إخوتاه كيف لكتاب قال الله تعالى فيه: ﴿كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ﴾ [إبراهيم 1] أن يحُلَّ فيه ما حل؟!
لو تأملنا قولَ المصطفى ﷺ في حق شريح الحضرمي: «ذاك رجل لا يتوسد القرآن” مع قوله ﷺ «إِنَّ اللَّهَ يَرْفَعُ بِهَذَا الْكِتَابِ أَقْوَامًا، وَيَضَعُ بِهِ آخَرِينَ» [1]
ندركُ أنَّ درجاتِ الرفعة ودركات الضَّعة تكون بالإقبال على هذا القرآن لا بتوسده وتضيعه.
إن من ينظر إلى القرآن على أنه مادةٌ دسمة للتلاوة في المآتم ودُور العزاء رجلٌ يتوسد القرآن.
إن صورةً غيرَ مرضيةٍ للتفاعل مع القرآن نراها في حال جمهور هذا القارئ الذي يقرأ آيةً طويلةً من كتاب الله عز وجل وبنفَسٍ واحد، ثم تجدْه يتمايل جهةَ اليمين تارةً، وتارة جهةَ اليسار ثم تارةً يضع يده على أذنه ومرةً على فمه، ثم تارةً يقترب من جهاز الصوت ومرة يبتعد عنه، ثم لو نظرت إلى وجهه تجدُ أنه يكاد يتميَّزُ من انقطاع نفَسِه فيحمرُّ وجهُهُ وعيناهُ وتنتفخُ أوداجُه، أما السامع فيشعر أن قلبه يكاد يتوقف شفقةً على القارئ أن ينقطع نفسه ويموت، ثم تجدُ الناس بعد أن ينتهي من قراءة هذه الآية يُعجبون بصوت القارئ ونفَسِه الطويل وأدائه الفريد، ويتحدثون بين بعضهم بما يدل على دهَشِهم وعجبهم من هذا الأداء وطولِ النفس وكيف أدارَ تلك الأنغام، فصار القرآن يتجاوب مع النغم لا العكس، ثم يرسلون ألفاظ المدح والثناء للقارئ دون أيِّ تفهُّم أو تأثُّرٍ بتلك الآيات التي كان يتغنى بها وربما تكون تلك الآيات تتحدث عن عذاب النار بل عن أصناف وأشكال العذاب كمثل قول الله تعالى: ﴿إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ ۞ طَعَامُ الْأَثِيمِ ۞ كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ ۞ كَغَلْيِ الْحَمِيمِ ۞ خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ ۞ ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ ۞ ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ﴾ [الدخان 43- 49].
خبروني بالله عليكم إخوتي هل لهذا نزل القرآن الذي يقول الله تعالى فيه: ﴿اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ﴾ [الزمر 23]؟
هل هذا هو القرآن الذي وصف الله تعالى حال سامعيه عندما قال: ﴿إذا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا﴾ [مريم 58].
أليس حال هؤلاء الناس هو حال من يتوسد القرآن؟
إن مكانة المسلمين ومنزلتهم لم تهبط إلاَّ يوم استسلموا لهذه الطريقة من التلاوة.
إن أعدائنا أيها الإخوة لم يعودوا يهابون القرآن وأحكامه فناموا مطمئنين أنَّ المسلمين انحرفوا عن منهجه فصاروا لا يجدون أيَّ غضاضةٍ في قراءته في محافلهم في الوقت الذي كان المشركون يخافون أن يؤثر فيهم هذا التنزيل فتراهم يتواصون إلاَّ يسمحوا ويمكِّنُوا آذانهم من سماعه ويقولون: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ﴾ [فصلت 26]، بل صار الطواغيت الذين ما أكثر ما بكَّتَهُم القرآن يحضرون القراء إلى قصورهم ومهاجعهم ليُتلى فيها؛ لأنهم عرفوا واطمأنوا أن المسلمين قد توسدوه ﴿فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾ [الزمر 22].
صدق من قال:
بإيمانهم نورانِ: ذكرٌ، وسُنَّةٌ ** فما بالهم في حالك الظلماتِ؟
أيها الأحبة: إن إنشاء المعارض التي تَعرض النسخ المزركشة للمصحف فهذا مصحف مذهَّب وذاك مزركش وهذا مكتوب على نوع من الورق يكاد يدهش الألباب.. كل هذه التصميمات البديعة والجماليات التي زُخرف بها المصحف شيءٌ حسن بل ويدل – مع حسن الظن – على حب الناس لكتاب الله تعالى ولكن هل هذا مراد الله من التنزيل؟
إن طلاب بعض الكتاتيب يكتبون القرآن على ألواح صغيرة من الخشب بمداد يصنعونه بأنفسهم من الصوف – مع شيء من المعالجة – يفقهون معناه ويتأثرون به، بل ويتأثر به من يسمعهم ويراهم وهم يتلون كتاب الله تعالى هكذا، أكثرَ بكثير ممن يتلوه من هذه النسخ المزركشة وبالطريقة السابقة التي تحدثنا عنها في الأداء.
إن حُسن الطبع وجمال الورق شيء جيد بل جيد جدًا لكن الأهم أن نفهم ما تضمنه الوحي ومرادُ الله من التنزيل وكيف ينشئ الأممَ ويمسكُ الحضارات ويحول دون زوالها.
إن وضع الدساتير التي تنصُّ أن يكون القرآن هو مصدرَ التشريع لا فائدة منه؛ لأن هذه الفِقرةَ من الدستور في هذا الجو ولدت ميتة، وحتى لو نفِّذت بعض تلك القوانين لن تدل على شيء.
بل إنَّ كثيرًا من الدول غير المسلمة ضمَّنت دساتيرها شيئًا من تشريع القرآن ومع ذلك لم تدخل بتلك التضمينات في الإسلام.
إن رمزية أن يكون القرآن مصدرَ الدساتير مع ضياع الجوهر نوعٌ من توسُّد القرآن.
إن كثيرًا من أبنائنا الذين يعيشون في البلاد التي تستمد دساتيرها من القرآن – كما يقولون – يرون التفريط والتهاون في بعض أحكام القرآن شارة على التقدم والرقي؛ فهم يرون تخلفهم في تطبيق أحكام الميراث والحجاب وأحكام الحدود والقصاص.. يريدون مصحفًا يتماشى مع أهوائهم ورغباتهم.
أيها الإخوة: إن ترديد السيدة عائشة لآية واحدة من كتاب الله تعالى: ﴿فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ﴾ [الطور 27] مرات وكَرَّات مدةً طويلة يشي بأن أمَّنا رضي الله عنها لم تتوسد القرآن.
إن أبا العالية رحمه الله تعالى حين اختار القرآن مُسكِّنًا على أن يشرب الخمر أثناء قطع رجله ونشرها بالمناشير وكيها بالزيت – بعد ذلك – رجل لم يتوسد القرآن.
فعلينا أن نعود للمصحف فنقرأه كما قرأه أسيدُ بنُ حُضير حين كان مرابطًا على أحد ثغور الإسلام وتناوشته السهام وهو قائم يصلي ويقرأ القرآن ولم يقطع صلاته لأنه كان يسترسل في قراءة سورة البقرة بل وكان قَطْعُ نفَسه أهونُ عليه من قطع الصلاة.. إن أسيد بن حضير لم يتوسد القرآن.
عندما نقرأ قول الله تعالى: ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا﴾ [طه 124] ونرى هذه المعيشة الضنك التي يعيشها الناس على هذه البسيطة نعلم معنى توسد القرآن في الوقت الذي نرى فيه أغلب إذاعات العالم تذيع القرآن على محطاتها بل وتتلوه بمختلف النغمات وبأجمل الأصوات.
نريد أن نرجع فنستمع للقرآن بأُذُن المصطفى ﷺ الذي كان يسمع بها القرآن حين قال لأبي موسى الأشعري: «لو رأيتَنِي وأنا أستمع لقراءتك البارحة، لقد أوتيت مزمارًا من مزامير آل داود» [2]
إن قسوة القلب يا إخوتي ناشئة من البعد عن المصحف ﴿أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ﴾ [الحديد 16] إن توسد القرآن يقسِّي القلب وإذا قسا القلب تهاون صاحبه بالطاعات واستثقلها، وإذا قسا القلب ضعُفت الغَيرة والحميَّة لدين الله عز وجل.
إخوتاه: إذا صار المصحف شفاءً لما في الصدور دل على أن القارئ له لم يتوسده؛ فإذا شفي ما في الصدور من شهوات تتشوف وشبهات تنبح، وإذا شفي ما في الصدور من حجب غليظة من طبقات الران دَلَّ على أن القرآن لم يُتوسَّد ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ [يونس 57]
إذا شفيت الصدور تعلقت بالآخرة واستهانت بالحطام، وإذا شفيت الصدور استقزمت كل ما سوى الله؛ فالنفوس التي شفاها المصحف ترى الشهرة وحُبَّ الرياسة وشهوةَ غلبة الأقران وغيرَها.. تراها حطامًا ظاهرهُ لذاذةٌ وباطنه تفاهة تستحق الطرح والرمي.
إن أبا بكر الصديق رضي الله تعالى عنه لأجل آية من كتاب الله تعالى أعاد النفقة لقريبه مِسطح بعد أن تكلم على ابنته السيدة عائشة بالسوء وآذاها، ولكنه لقول الله عز وجل: ﴿وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [النور 22] فقال أبو بكر: “بلى أحبُّ أن تغفر لي يا ربّ” وأعاد النفقة إلى مسطح.. إن أبا بكر لم يتوسد القرآن.
وإن أبا طلحة الأنصاري عندما سمع قول الله عز وجل: ﴿لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ﴾ [آل عمران 92] فتصدق بأعظمِ بساتينه وأحبِّها إليه.. ذاك رجل لم يتوسد القرآن.. ربح البيع أبا يحيى.
إن عمر بن الخطاب حين سمع قول الله تعالى من أحد المصلين ليلًا ﴿إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ ۞ مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ﴾ [الطور 6-7] فقال “قَسَمٌ والله حق”، فبقي شهرًا وهو مريض يعوده الناس ولا يدرون ما به.. ذاك رجل لم يتوسد القرآن.
وإن النساء من الأنصار لمَّا سمعن قول الله تعالى: ﴿وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ﴾ [النور 31] امتثلن قول الله تعالى وشَقَقْنَ مروطهن واعتجرن بها وتغطين فصرن كالغربان في السواد متشحات بالحجاب لا يُرى منهن شيئًا امتثالًا لأمر الله تعالى إن نساء الأنصار لم يتوسدن القرآن.
أيها الأحبة: تبقى آيات القرآن في نفوس المؤمنين لها شأن عظيم في تقريبهم من الله تعالى وإحياءِ قلوبهم بالذكر.
فليست القضية إنهاءَ ختمةٍ وراء ختمة، أو التجويد فقط؛ لكن الفهمَ والتأثرَّ والتفاعل هو المطلوب.
اللهم وفقنا لمحابك وألهمنا مراشد الصواب والهداية.
اللهم اجعل القرآن العظيم ربيع قلوبنا ونور أبصارنا وبصائرنا، اللهم ذكرنا منه ما نُسِّينا وعلمنا منه ما جهلنا، وارزقنا تلاوته آناء الليل وأطراف النهار على الوجه الذي يرضيك عنا.
اللهم إنَّا نعوذ بك من الشقوة في حمله والعمى عن عمله والحَوْرَ عن حُكمه والعلو عن قصده والتقصير دون حقه.
اللهم إنا نعوذ بك من تخلُّفه في قلوبنا، وتوسُّده عند رقادِنا، ونبذه وراء ظهورنا، ونعوذ بك من قسوة قلوبنا لما به وعظتنا آمين آمين.
وصلى الله على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] سنن الدارمي: باب إن الله يرفع بهذا القرآن ويضع آخرون، (3408)، [4/ 2218].
[2] صحيح مسلم: باب استحباب تحسين الصوت بالقرآن، (793)، [1/ 546].