سلسلة شعب الإيمان | الرجاء ج2 | المقالة الرابعة والعشرون | د. محمد فايز عوض
﷽
الحمد لله أجلِّ مقصودٍ وأكرمِ معبودٍ، سبحانه.. ينشر شآبيب الرحمة في قلوب الخائفين من عباده ﴿وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ﴾ [الشورى: 28].
والصلاة والسلام على سيدنا محمد عبده ورسوله وصفيه من خلقه وحبيبه، كان قلبه الشريف أشد القلوب تعلقاً بربه رغباً ورهباً، وهو القدوة العظمى في بابِ الرَّجاءِ. اللهم صلِّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
العلاقة بين الخوف والرجاء:
الخوف يستلزم الرجاء، ولولا ذلك لكان يأسًا وقنوطًا من رحمة الله، والرجاء يستلزم الخوف، ولولا ذلك لكان أمنًا من مكرِ الله؛ فالخوف والرجاء متلازمانِ، فكل راجٍ خائف، وكل خائف راجٍ؛ ولذلك حسُن وقوع الرجاء في مواضع يحسُن فيها وقوع الخوف؛ مثل قوله تعالى: ﴿مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا﴾ [نوح: 13].
♦ قال المفسرون: “ما لكم لا تخافون لله عظمة”، فكل راجٍ خائف من فوات مرجوِّه ومطلوبه.
♦ فالمؤمن عندما يسير إلى الله له نظران:
نظر إلى نفسه وعيوبه، وآفات عمله؛ من العُجب، والرياء، والاغترار بالعمل، وهذا يفتح عليه باب الخوف، وينقله بعد ذلك إلى سَعة رحمة الله وفضله، فيفتح له باب الرجاء، وهذا هو النظر الثاني؛ نظر إلى سَعة رحمة الله عز وجل.
ولا بد من الموازنة بين الخوف والرجاء؛ كما قال بعض العلماء: العبد في سيره إلى الله كالطائرِ يطير بجناحين (الخوف والرجاء)، فجناحا الطائر إذا استويا استوى الطائر وتم طيرانه، وإذا نقص أحدهما اختل توازنه نوعًا ما، وإذا ذهب الجناحان صار الطائر في حدِّ الموت، فالمؤمن يجمع بين الخوف والرجاء.
قال تعالى: ﴿أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ﴾ [الزمر: 9]، وقال عز وجل: ﴿وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا﴾ [الأعراف: 56]، وهذه الآية من أدلة وجوب الخوف والرجاء.
مسألة تغليب الخوف والرجاء:
الاعتماد على الخوف وحده قنوط من رحمة الله ﴿وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ﴾ [الحجر: 56] ﴿إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ﴾ [يوسف: 87].
و الاعتماد على الرجاء وحده أمن من مكر الله ﴿أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ ۚ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ﴾ [الأعراف: 99] والسنة الشريفة وضحت لنا أيضا أن المزج بين الأمرين هو سبيل النجاة ففي حديث أنس الذى رواه الترمذي «أن رسول الله ﷺ دخل على شاب وهو في الموت، فقال: كيف تجدك؟ قال: أرجو الله يا رسول الله وإني أخاف ذنوبي، فقال ﷺ: لا يجتمعان في قلب عبد في مثل هذا الموطن إلا أعطاه الله ما يرجو وأمنه مما يخاف».
وقد وصف الله المؤمنين بعمل الصالحات مع خوفهم من ربهم، فقال عزّ وجل :﴿أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ ۗ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [الزمر: 9] وقال أيضاً: ﴿وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَىٰ رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ ۞ أُولَٰئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ﴾ [المؤمنون: 60- 61].
تقول عائشة رضي الله عنها: «سألت النبي ﷺ عن هذه الآية أهم الذين يشربون الخمر ويسرقون؟ قال: لا يا بنت الصديق، ولكنهم الذين يصومون ويصلون ويتصدقون وهم يخافون أن لا يقبل منهم».
وقال الحسن البصري :”المؤمن يعمل بالطاعات وهو مشفق وجل خائف والفاجر المنافق يعمل بالمعاصي وهو آمن”.
وذكر الإمام السبكي في طبقات الشافعية الكبرى: “أن الأنبياء عليهم السلام يعلمون أنهم مأمونوا العواقب ومع ذلك هم أشد الناس خوفاً من ربهم”.
والإمام البخاري رحمه الله تعالى بوب في صحيحه (باب الرجاء مع الخوف)
وقال ابن حجر في الفتح: “أي استحباب ذلك فلا يقطع النظر في الرجاء عن الخوف، ولا الخوف عن الرجاء، لئلا يفضى إلى المكر في الأول، وفي الثاني إلى القنوط، وكل منهما مذموم والمقصود بالرجاء إن وقع منه تقصير أو ذنب فليحسن ظنه بالله ويرجو أن يمحو الله ذنبه، وكذا من فعل طاعة يرجو قبولها وأما من انهمك في المعصية راجياً عدم المؤاخذة بغير ندم ولا إقلاع، فهذا في غفلة وغرور وصدق القائل: من علامة السعادة أن تطيع وتخاف ألا تقبل، ومن علامة الشقاء أن تعصي وترجو أن تنجو، وكان ابن عمر رضي الله عنهما يقول :لو أعلم أن الله تقبل منى سجدة لكان فرحي بالموت أشد من فرح الأهل بقدوم الغائب، ذلك لقوله تعالى :﴿إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ﴾ [المائدة، 27]“
ومن تأمل أحوال الصحابة الكرام رضي الله عنهم ومن سار على نهجهم واتبع هديهم يجدهم في غاية العمل و الإجتهاد وحسن الظن بالله تعالى مع غاية الخوف منه عز وجل ونحن للأسف الشديد جمعنا بين التقصير والأمن، ولو لم يتغمدنا الله عز وجل برحمته لهلكنا.
– فهذا الصديق رضي الله عنه يقول يوما: (لوددت أني شعرة في جنب عبد مؤمن).
– ولما قرأ عمر بن الخطاب رضي الله عنه سورة الطور حتى بلغ قوله تعالى: ﴿إن عذاب ربك لواقع﴾ بكى واشتد نحيبه حتى مرض وعادوه،
وقال لابنه وهو يموت بعدما طعنه المجرم الأثيم أبو لؤلؤة المجوسي: (ويحك ضع خدي على الأرض عساه يرحمني عز وجل)، ثم قال:(ويلي وويل أمي إن لم يغفر لي ربي) قالها ثلاثا ثم قضى وكان في وجهه خطان أسودان من كثرة البكاء.
– وقال له ابن عباس :إن الله مصر بك الأمصار، وفتح بك الفتوح وفعل بك كذا وكذا فقال رضي الله عنه: “وددت أني أنجو لا أجر ولا وزر”.
– وكان عثمان رضي الله عنه إذا وقف على القبر يبكي حتى يبل لحيته ويقول: (لو أنني بين الجنة والنار ولا أدري إلى أيتهما أصير لاخترت أن أكون رمادا قبل أن أعلم إلى أيتهما أصير) وأمسك رضي الله عنه أذن غلامه يوما لتأديبه، فندم وطلب من الغلام أن يقتص منه فأبى فأصر عثمان، فأمسك الغلام بأذن عثمان برفق فقال له: (أشدد يا غلام فقصاص الدنيا أرحم من قصاص الآخرة).
– وسلَّم علي رضي الله عنه من صلاة الفجر يوماً وقد علاه كآبة وهو يقلب يده ويقول: “لقد رأيت أصحاب رسول الله ﷺ فلم أر اليوم شيئا يشبههم، لقد كانوا يصبحون شعثاً غبراً صفراً بين أعينهم أمثال ركب المعزى، قد باتوا سجداً وقياماً يتلون كتاب الله تعالى يراوحون بين جباههم وأقدامهم، فإذا أصبحوا ذكروا الله وتمادوا كما يميد الشجر في يوم الريح وهملت أعينهم بالدموع حتى تبل ثيابهم، والله فكأني بالقوم باتوا غافلين” فما رؤي بعد ذلك ضاحكاً حتى ضربه ابن ملجم الخارجي.
فهؤلاء الأفاضل الأكارم كل منهم بشر بالجنة، وبالرغم من ذلك هكذا كان خوفهم من عذاب الله عز وجل والخوف والرجاء للمؤمن كالجناحين يطير بهما في سماء التعبد، ولابد من تحقيق التكافؤ والتوازن بينهما حتى تستقيم حياته في الدنيا ويفوز بالنعيم في الآخرة
استحبَّ السلف للمسلم أن يُقوِّي جانب الخوف على الرجاء في حالة الصحة؛ حتى تستقيم أموره، ويبتعد عن المعاصي.
أما إذا نزل به الموت، فعليه أن يُقوِّي جانب الرجاء في رحمته وعفوه، قال ﷺ: «لا يموتنَّ أحدكم إلا وهو يحسن الظنَّ بربه».
♦ حال بعض السلف عند الاحتضار من الرجاء بعد الخوف:
♦ حضرت بلالًا الوفاةُ، فقالت زوجته: واحزناه! قال بلالٌ: “بل واطرباه، غدا نلقى الأحبة، محمدًا وحزبه”.
♦ وقال معاذ رضي الله عنه عند الاحتضار: “اللهم إني قد كنتُ أخافك، وأنا اليوم أرجوك”.
♦ ولما حضرتْ آدمَ بن إياس الوفاةُ – وكان شيخ الشام وإمامًا حافظًا قدوة – ختمَ القرآن وهو مسجى، ثم قال: بحبي لله إلا رفقتَ بي في هذا المصرع، كنت أؤملك لهذا اليوم، كنت أرجوك، ثم قال: لا إله إلا الله، ثم قضى – مُسَجى: أي مغطى بثوب ونحوه-
أسيرُ الخطايا عندَ بابِك واقفُ |
على وجلٍ مما به أنتَ عارفُ |
|
يخافُ ذنوبًا لم يَغِبْ عنك غيبُها |
ويرجُوكَ فيها فَهْو راجٍ وخائفُ |
|
ومَن ذا الذي يُرجَى سواك ويُتَّقى |
وما لك في فصلِ القضاءِ مخالفُ |
|
فيا سيدي لا تُخْزِني في صحيفتي |
إذا نُشِرت يومَ الحسابِ الصحائفُ |
قال يحيى بن معاذ: إلهي، أحلى العطايا في قلبي رجاؤك، وأعذب الكلام على لساني ثناؤك، وأحب الساعات إليَّ ساعة يكون فيها لقاؤك.
اللهم اجعلنا ممن يرجون رحمتك، ويخافون عذابك، ويؤمنون بوعدك
وإذا كانت هذه مكانة «الرجاء» فكيف نحدد معالمه؟.
قال الإمام الغزالي رحمه الله تعالى:
«الرجاء هو ارتياح القلب لانتظار ما هو محبوب عنده، ولكن ذلك المحبوب المتوقع لا بد وأن يكون له سبب.
فإن كان انتظاره لأجل حصول أكثر أسبابه فاسم «الرجاء» صادق عليه
وإن كان ذلك انتظارًا مع انخرام أسبابه فاسم «الغرور» و«الحمق» عليه أصدق من اسم الرجاء.
وإن لم تكن الأسباب معلومة الوجود، ولا معلومة الانتفاء، فاسم «التمني» أصدق على انتظاره، لأنه انتظاره من غير سبب».
«فكل من طلب أرضًا طيبة، وألقى فيها بذرًا جيدًا، غير عفن ولا مسوِّس، ثم أمده بما يحتاج إليه، وهو سوق الماء إليه في أوقاته، ثم نفى الشوك عن الأرض والحشيش، وكل ما يمنع نبات البذر أو يفسده، ثم جلس منتظرًا من فضل الله تعالى دفع الصواعق، والآفات المفسدة إلى أن يتم الزرع ويبلغ غايته، سمى انتظاره رجاء.
وإن بث البذر في أرض صلبة سبخة مرتفعة، لا ينصب إليها الماء، ولم يشتغل بتعهد البذر أصلًا، ثم انتظر الحصاد منه، سمي انتظاره: حمقًا وغرورًا، لا رجاء.
وإن بث البذر في أرض طيبة، ولكن لا ماء لها، وأخذ ينتظر مياه الأمطار، حيث لا تغلب الأمطار ولا تمنع، سمي انتظاره تمنيًا لا رجاء.
فينبغي أن يقاس رجاءُ العبد المغفرةَ برجاء صاحب الزرع»