سلسلة إشراقات إيمانية في شهر الصيام | المقالة الرابعة عشرة | الشيخ محمود دحلا

﷽

رمضان فرصة مواتية للدعوة إلى الله ﷻ

          الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.

          نعيش معكم أيام شهر رمضان وليَالِيَهُ المباركة في طاعة الله سبحانه وتعالى والقرب منه جلّ وعلا، ونحاول أن نستخرج كنوزاً تنفعنا في هذا الشهر الكريم المبارك، لذا عنوان حديثنا اليوم رمضان فرصة مواتية للدعوة إلى الله ﷻ والتبليغ والتعريف بدين الله ﷻ، والتبليغ صفة من الصفات الواجبة في حق الرسل عليهم الصلاة والسلام التي جُمعت بقول الناظم: 

وَواجِبٌ في حَقِّهِمْ الأمَانَةْ *** وَصِدْقُهُمْ وَضِفْ لَهُ الفَطَانَة

وَمِثْلُ ذا تَبْلِيْغُهُمِ لما أَتَوا *** وَيَسْتَحِيْلُ ضِدُّها كَما رَوَوْا

          فالله ﷻ أرسل الرسل عليهم الصلاة والسلام وأمرهم بالتبليغ، وسيدنا محمد رسول الله ﷺ سيد الرسل والأنبياء أُمِر بالتبليغ والدعوة إلى الله ﷻ كما أُمِر بذلك سائر الرسل عليهم الصلاة والسلام، قال الله ﷻ ﴿إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا ۞ وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا﴾ [الأحزاب، 45- 46].

          فإذا كان هذا وصف الرسل ووصف سيد الرسل عليهم الصلاة والسلام، فينبغي أن يكون هذا وصف أتباع الرسل -أي التبليغ- ووصف أحباب الرسل عليهم الصلاة والسلام، ﴿وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ ۞ اتَّبِعُوا مَن لَّا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُم مُّهْتَدُونَ﴾ [يس، 20-21]، فالدعوة إلى الله ﷻ خصلة يمنحها الله ﷻ خيرة عباده، إذا أردت أن تعرف قدرك عند الله ﷻ فانظر فيما يُقيمك، فإن أقامك في الدعوة إليه ﷻ وجعلك خليفة للرسل عليهم الصلاة والسلام فإن منزلتك عظيمة وقدرك كبير عند الله ﷻ.

كيف لا وقد قال الله ﷻ ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾ [ فصلت: 33]، والنبي ﷺ بَيّنَ مكانة الداعية إلى الله ﷻ فقال: «لأنْ يهْدِيَ اللَّه بِكَ رجُلًا واحِدًا خَيْرٌ لكَ من حُمْرِ النَّعم» وفي رواية «خير لك مما طلعت عليه الشمس وغربت». 

إذا أكرم الله ﷻ رجلاً بالهداية على يديك، والنبي ﷺ يسر لنا هذا الأمر ولم يجعله أمراً معقداً، بمعنىً آخر؛ الدعوة إلى الله ليست مختصة بطائفة من أمة النبي ﷺ، كلنا ينبغي أن نكون دعاةً إلى الله، ليست وظيفة من يُقال عنه عالم أو يُقال عنه شيخ أو يُقال عنه طالب علم، هذا الوظيفة وظيفتنا جميعاً وهذا المهمة مهمتنا جميعاً وهذا الواجب واجبنا جميعاً.

          الصحابة الكرام رضي الله تعالى عنهم جميعاً كانوا يشاركون في الدعوة إلى الله ﷻ، سيدنا أبو بكر الصديق رضي الله عنه لم يكن له منبرٌ يخطب عليه ولا محرابٌ يؤمُّ فيه ومع ذلك أسلم على يديه أكثر العشرة المبشرين بالجنة.

فلا بدّ من أن نعطي أمر الدعوة المكانة التي تليق بها، فالنبي ﷺ قال «بلّغوا عنّي ولو آية» بلغوا: تكليف، عني: تشريف، ولو آية: تخفيف من المصطفى ﷺ.

          ألا تستطيع في ليلك، في نهارك، في غدوّك، في رواحك، في عملك، في وقت راحتك أن تبلّغ ولو آيةً عن رسول الله ﷺ!

وقال ﷺ «نضَّر الله امرأ سمِع مقالَتي فوعاها فحفِظها فأدّاها»، دعاء..

كثير منا يسمع أدعيةً دعاها رسول الله ﷺ للصحابة الكرام، فيقول ليتني كنت في زمن النبي ﷺ حتى يدعوَ لي النبي ﷺ ودعاؤه ﷺ مستجاب، ولم يدعُ لأحد بشيء إلا استجاب الله له، فتتمنى وأتمنى ويتمنى أن نكون في عهد النبي ﷺ ليدعو لنا! ألا ترى أنك تستطيع أن تطوي المكان والزمان، تستطيع أن تطوي أكثر من 14 قرناً، وأن تطوي مئات بل آلاف الكيلو مترات وكأنك في حضرة النبي ﷺ، والرسول ﷺ يدعو لك «نضّر الله امرأ..» يدعو لك بنضارة الوجه «نضَّر الله امرأ سمِع مقالَتي فوعاها فحفِظها فأدّاها» الوظيفة الأولى: أن نستمع، الثانية: أن نعي، الثالثة: أن نحفظ، الرابعة: أن نؤدّي ونبلّغ، أن ننشر كلام النبي ﷺ. إذا جلسنا في مجلس عوضاً عن أن نبدأ بأحاديث الغيبة والنميمة والخوض في أعراض الناس، نقول لأحد الحاضرين أو لكل الحاضرين ليسمعنا كل منكم حديثاً عن رسول الله ﷺ.

          أيها الأحباب انتهاز الفرص في الدعوة إلى الله كان له شأنٌ في حياة النبي ﷺ، عمر بن أبي سلمة يقول: «كُنْتُ غُلَامًا في حَجْرِ رَسولِ اللَّهِ ﷺ، وكَانَتْ يَدِي تَطِيشُ في الصَّحْفَةِ، فَقالَ لي رَسولُ اللَّهِ ﷺ: يا غُلَامُ، سَمِّ اللَّهَ، وكُلْ بيَمِينِكَ، وكُلْ ممَّا يَلِيكَ فَما زَالَتْ تِلكَ طِعْمَتي بَعْدُ»

أثناء الطعام كان دعوة من النبي ﷺ إلى الله ﷻ، انتهز الفرصة حتى وقت الطعام لم يضيّعها ووجّه هذا الصبي، حتى إنّ كثيراً من أطفالنا اليوم يحفظون هذا الحديث من خلال هذه النصيحة التي أسداها رسول الله ﷺ إلى عمر بن أبي سلمة رضي الله عنه.

          النبي ﷺ يُردِف عبدَ الله بن عباس رضي الله عنهما خلفه على الدّابة وينتقل من مكان إلى آخر -هل نضيّع هذا الوقت؟ هل يكفي أن ننظر إذا كنا في الحافلة يميناً ويساراً دون أن نتكلم إذا كان هناك فرصة للدعوة إلى الله ﷻ! سيدنا النبي ﷺ الذي قال الله ﷻ في حقه ﴿لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾ [الأحزاب، 21] يعلمنا كيف نغتنم الفرص في الدعوة إلى الله، فقال لعبد الله بن عباس قالةً ونصحه نصائح لايزال أثرها في الأمة إلى يومنا هذا، وكانت من جوامع كلمه ﷺ – قال: «يا غُلامُ إنِّي أعلِّمُكَ كلِماتٍ، احفَظِ اللَّهَ يحفَظكَ، احفَظِ اللَّهَ تَجِدْهُ تجاهَكَ، إذا سأَلتَ فاسألِ اللَّهَ، وإذا استعَنتَ فاستَعِن باللَّهِ، واعلَم أنَّ الأمَّةَ لو اجتَمعت علَى أن ينفَعوكَ بشَيءٍ لم يَنفعوكَ إلَّا بشيءٍ قد كتبَهُ اللَّهُ لَكَ، وإن اجتَمَعوا على أن يضرُّوكَ بشَيءٍ لم يَضرُّوكَ إلَّا بشيءٍ قد كتبَهُ اللَّهُ عليكَ، رُفِعَتِ الأقلامُ وجفَّتِ الصُّحفُ».

          سيدنا معاذ رضي الله عنه كان الرسول ﷺ يحبه -ونحن أيضاً نحب، إذا أحببت أخاً لك في الله توجه إليه بقلبك وتوجه إليه بلسانك ناصحاً وموصياً، استثمر هذه المحبة؛ لأن الحب يجعل الكلام ينساب على اللسان، فإذا أحببته اغتنم هذا الحب لتدلّه على الله ﷻ ليكون أكثر قرباً من الله سبحانه وتعالى- قال النبي ﷺ لسيدنا معاذ بن جبل رضي الله عنه: «واللهِ إني لأحبُّك فلا تنسى أن تقولَ دُبُرَ كلِّ صلاةٍ : اللهمَّ أعنِّي على ذكرِك وشكرِك وحسنِ عبادتِك».

          أرأيتم إلى سيدنا يوسف ﷺ عندما توجّه إليه قلبا الفتيين في السجن، اغتنم هذا الإقبال منهما عليه، وقبل أن يُعبِّر لكل واحدٍ منهما الرؤية التي رآها، دلّهم إلى ما هو أفضل من ذلك واغتنم الفرصة ليعلمهم توحيد الله ﷻ ولينأى بهم عن الشِّرك فقال: ﴿يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ﴾ [ يوسف: 39]، فرصة مواتية حتى في السجن..

كثير من علمائنا كانوا مدرّسين ومعلّمين ومربّين في السجون، وكثير من طلاب العلم ساروا في طريق العلم من خلال اجتماعهم بأولئك العلماء في السجون. إذن هي فرص ينبغي علينا أن نغتنمها في الدعوة إلى الله ﷻ.

          سيدنا جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه، عندما كان في حضرة النجاشيّ، وقد كانت قريش قد أرسلت غلمانها لِيُؤَلِّبُوا النجاشيّ على صحابة رسول الله ﷺ حيث هاجروا إليه بإشارة من رسول الله ﷺ وتوجيه. ماذا كان من سيدنا جعفر رضي الله عنه؟ كان رابط الجأش، كان صادقاً فيما قال، كان مغتنماً هذا الموقف في الدعوة إلى الله، فأسمعه القرآن الكريم، وأسمعه الخصال التي كان عليها رسول الله ﷺ والتي ربّى عليها أصحابه.

          الصحابة الكرام رضي الله عنهم عندما توفي النبي ﷺ وانتقل إلى الرفيق الأعلى كانوا أكثر من مئة ألف صحابيّ، وإذا بحثت في مقابر مكة والمدينة لم تجد إلا آلافاً أو عشرات الألوف قليلة من أولئك الصحابة رضي الله عنهم، أين بقية الصحابة؟ ساروا في أقطار الأرض وساروا في أنحاء المعمورة دعاة إلى الله ﷻ مبلّغين هذا الدين، ولولا هذا البذل وهذا العطاء وهذه الجهود وهذه الدعوة لما وصل إلينا هذا الدين، فقد وصل إلينا هذا الدين حلْقة عن حلْقة عن حلْقة، حلقات متوالية وسلسلة منا إلى رسول الله ﷺ، أينقص هذا الدين في جيلنا! وتنقطع هذه السلسلة بموتنا! إن كان الأمر كذلك فنحن أشقى الناس.. كما أوصل إلينا هذا الدين وكما أوصل إلينا هذه الأخلاق آباؤنا وأجدادنا، علينا أن نغذّي أبناءنا وأحفادنا ليبقى هذا النور شائعاً، ويبقى هذا العطاء سارياً في الأجيال القادمة.

          رمضان أيها الأحباب مائدة عبِقة، رمضان مدرسة فيها إقبال على الله ﷻ، فيها إيمان، فيها عبادة، فيها أخلاق، فيها حلاوة. رمضان مدرسة فيها صيام، فيها قيام، فيها اعتكاف، فيها تراويح، فيها أذكار، فيها صلاة جماعة، فيها قراءة قرآن. هذه المدرسة العظيمة التي نعيش في أرجائها، ونتقرّب في نعيمها، علينا أن نغتنمها أعظم الاغتنام.

من اغتنام هذه المدرسة نرى ضيوفاً يأتون إلى المساجد في رمضان، يأتون إلى الطاعة، يأتون من أماكن الفسق واللغو إلى المساجد، من أماكن المعصية والفسوق إلى طاعة الله ﷻ. 

• ما وظيفتنا ونحن نتحدّث عن انتهاز الفرص في الدعوة إلى الله ﷻ؟ 

          وظيفتنا أيها الأحباب أن نحوّل هؤلاء الضيوف من ضيوف مؤقتين إلى ضيوف دائمين، هم أتوا ضيافة مؤقتة، البعض يأتي  يوماً ويذهب، البعض يأتي يومين، البعض يأتي أسبوعاً، البعض يأتي في رمضان كله ثم يذهب، نريدهم ضيوفاً دائمين.

•  هل هناك ضيف دائم؟ نعم، كيف تكون ضيفاً دائماً؟ إذا كنت ضيفاً على الله.. 

          قال رسول الله ﷺ عن الله ﷻ: «إنّ بيوتي في أرضي المساجد وإن زوّارها عمّارها، فطوبى لعبد تطهر في بيته ثم زارني في بيتي فحق على المزور أن يكرم زائره»، فمن يأتي بيت الله ﷻ فهو في ضيافة الله ﷻ.

• وفي الختام أيها الأحباب:

          وأنا أتحدّث عن النقطة الأخيرة أن نحوّل ضيوف رمضان في المساجد والطاعة من ضيوف مؤقتين إلى ضيوف دائمين، أريد أن أقول ما ينبغي أن يكون اليهود أشد حنكةً وذكاءً وحيلة منا، هم أوجدوا حيلة للحرص على دنياهم، ألا نجد حيلة للحرص على ديننا وشبابنا وأحبابنا! 

قال الله سبحانه وتعالى: ﴿وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ ۙ لَا تَأْتِيهِمْ ۚ كَذَٰلِكَ نَبْلُوهُم بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ﴾ [الأعراف، 163]. 

فأوجدوا حيلة و نصبوا الشّباك وحفروا الحفر وجعلوا الحياض تدخل إليها الأسماك ليرفعوها بعد يوم السبت.

 هذا رمضان نبحث عن أي حيلة، لنغتنم إخواننا ولنشدّ على أيديهم، ولنسير بهم السير الدائم  في مرضاة الله ﷻ في بيوت الله ﷻ مع كتاب الله ﷻ مع اتباع سيدنا محمد ﷺ مع طلب العلم.

نسأل الله ﷻ أن يوفقنا إلى ذلك ويعيننا على ذلك، إنه على كلّ شيء قدير..

اللهم اعنّا على الصيام والقيام وغضّ البصر وحفظ اللسان وقراءة القرآن، واجعلنا يا إلهنا من الدعاة إليك، واجعلنا من العلماء الربّانيّين، واختم لنا بخاتمة الحسنى.

والحمد لله ربّ العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.